تصدّرت مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لإقليم دارفور الكبرى وحاضرة ولاية شمال دارفور، الأنباء في مطلع شهر نوفمبر 2023، أي بعد قرابة السبعة أشهر من اندلاع الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وقتها أوشكت المدينة أن تصبح مسرحاً لصدامٍ دامٍ بين الطرفين المتحاربين بهدف السيطرة عليها. أثار ذلك الاحتمال مخاوف دولية انعكست في إصدار الأمم المتحدة والإدارة الأمريكية تحذيرات بأن الهجوم المتوقع من قبل قوات الدعم السريع علي قاعدة الفرقة السادسة مشاة بوسط مدينة الفاشر ستترتب عليه خسائر بشرية جسيمة، وموجات جديدة من النزوح لمئات الآلاف من النازحين الذين وجدوا ملاذاً آمناً لهم بالمدينة منذ انطلاق حملات الإبادة الجماعية بدارفور في 2003، وبعد نشوب الحرب الحالية في منتصف أبريل من العام المنصرم.
لحسن الحظ، لم يقع الهجوم. ليس بسبب الضغوط الدولية فحسب، بل، في المقام الأول، بفضل مجهودات لجنة محلية للوساطة بين طرفي القتال كوَّنها أعيان مدينة الفاشر من قيادات الإدارة الأهلية، والنخب المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، وروابط النساء والشباب. وعقدت اللجنة هدنةً بين طرفي القتال في سابقة وفرت للمدينة هدوءاً نسبياً، بالرغم من تعدد الخروقات، والانهيارات المتكررة للهدنة، والانتهاكات الجسيمة من قبل الطرفين. وبفضل مجهودات اللجنة في المحافظة علي موقف متوازن بين كافة الأطراف المسلحة، وفرضها أسبقية حماية المدنيين على طموحات هذه الأطراف للهيمنة العسكرية، تبدو الفاشر حالياً كأنها المسرح الوحيد في خضم حرب السودان المدمرة الذي تتقاسم فيه ثلاثة أطراف مسلحة الوجود بالمدينة؛ القوات المسلحة السودانية، وقوات الدعم السريع، والقوات المشتركة للحركات الدارفورية الموقعة على اتفاق سلام جوبا مع الحكومة الانتقالية في 2020.
توثق هذه الورقة الموجزة التجربة الفريدة للجنة الوساطة والحكماء بالفاشر، التي توسع نشاطها بعد فترة وجيزة من تكوينها ليشمل مجمل ولاية شمال دارفور. ويقتضي الفهم السليم لتجربة لجنة الوساطة والحكماء بالفاشر، استعراض السياق الأمني والاجتماعي في مدينة الفاشر ومدن شمال دارفور الأخرى والإلمام بأسباب النجاح وبالتحديات التي واجهتها وهي تضطلع بمهامها من خلال سرد مجموعة من الوقائع والملاحظات.