سليمان بلدو
تتموضع منظومة الصناعات الدفاعية التابعة للقوات المسلّحة السودانية، التي كانت تُعرف سابقاً بهيئة التصنيع الحربي، للهيمنة على الاقتصاد السوداني في مرحلة ما بعد الحرب، وذلك عبر الاستفادة من عمليات إعادة الإعمار وإصلاح البنية التحتية التي دمّرها النزاع. لقد رزح الاقتصاد تحت هيمنة الجيش لعهود متطاولة، حيث استحوذ على 82% من موارد الدولة المالية وفقاً لما أقرّ به رئيس وزراء الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك في عام 2020. ورغم ذلك، يبدو أن الجيش السوداني يرى في إعادة الإعمار بعد الحرب فرصةً لإعادة تأهيل وتعزيز قبضته على الاقتصاد الوطني.
دمّرت الحرب البنية التحتية الصناعية في السودان، وطال الخراب البنية التحتية للقطاع العام والخاص على حدٍّ سواء، مع تحمّل القطاع الخاص النصيب الأكبر من التدمير. وكما يمثل إعطاء الأولوية للأصوات المدنية أمرٌ حاسمٌ في رسم مسار سياسي بعيد عن دوامة النزاعات التي أنهكت البلد، فإن وضع القطاع الخاص في صميم مشاريع إعادة التأهيل وإعادة الإعمار بعد الحرب يُعدّ ضرورةً لتحرير الاقتصاد من قبضة الهيمنة العسكرية. ويستلزم تحقيق هدف إعادة الإعمار بعد الحرب وترسيخ أسس التنمية المستدامة أن يتولى القطاع الخاص قيادة جهود إعادة البناء، على نحو يعكس اتجاه التدمير المنهجي الذي استمر على مدار الثمانية عشر شهراً الماضية من قِبَل الأجهزة العسكرية والأمنية، وصنيعتها المتوحشة، قوات الدعم السريع. ويجب أن تمسك الوزارات الفنية المدنية، مثل وزارات الصحة والطاقة والزراعة، بزمام الأمر بمعزل عن هيمنة الأنظمة العسكرية والأمنية على الأنشطة التي تدرّ عائدات للدولة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا من خلال إعادة السلطات الكاملة لمؤسسات الدولة الرقابية، مثل وزارة المالية وديوان المراجع العام والسلطة القضائية، وفقاً للقوانين الوطنية.
في هذا السياق، يُعتبر وضع تدابير متوسطة وطويلة الأجل أمراً لا غنى عنه، حيث يبدو أن الجيش السوداني قد شرع بالفعل في توجيه الدعم الاقتصادي المحدود الذي تقدمه الجهات الدولية الشريكة للسودان في قنوات قوامها شركاته الخاصة أو المؤسسات العامة الخاضعة لسيطرته الكاملة. فخلال زيارة البرهان إلى الصين في سبتمبر ، وُقّعت تقريباً جميع الاتفاقيات بين شركات تابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية وشركات صينية. وأهم تلك الاتفاقيات كانت “اتفاقية التعاون الاستراتيجي” بين منظومة الصناعات الدفاعية وشركة “بولي تكنولوجيز Polytechnologies ” الصينية، التي من المرجح أن تعمل على إعادة بناء قدرات المنظومة في مجال تصنيع الأسلحة . ويبدو أن الجيش السوداني سيعطي الأولوية لشراء الأسلحة والذخائر من الصين على حساب مشاريع إعادة التأهيل طويلة الأمد بعد الحرب.
وفقاً لصحيفة الكرامة الموالية للجيش السوداني، وقّعت مجموعة الطاقة والتعدين المنضوية تحت منظومة الصناعات الدفاعية اتفاقية مع شركات تابعة لمؤسسة الصين للطاقة China Energy، بهدف تطوير منشآت للطاقة النووية وإعادة بناء الموانئ والمطارات. كما أبرمت مجموعة الطاقة والتعدين اتفاقيات مع شركة الصين لبناء الاتصالات العالمية China Communications Construction Company Global، المعروفة اختصاراً باسم (CCCCG) لإعادة تأهيل البنية التحتية للكهرباء في السودان. وقد تم التوقيع تحت إشراف الفريق أول ميرغني إدريس، المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية، وبدر الدين الفيل، مدير الشركة الوطنية للطاقة والهندسة.
كما أفادت صحيفة الكرامة أن مجموعة جياد الهندسية، وهي كيان آخر تابع لمنظومة الصناعات الدفاعية، وقعت اتفاقيات مع عدة شركات صينية لتصنيع السيارات لإنتاج سيارات كهربائية وشاحنات وآليات أخرى في السودان. وفي الوقت نفسه، أبرمت مجموعة تنمية الصادرات، وهي شركة قابضة تابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، اتفاقية مع شركة آهكوف للتنمية الدولية AHCOF لتطوير القطاع الزراعي في السودان. وأكد الرئيس التنفيذي لشركة آهكوف الدولية خلال التوقيع أن الشركة تعدّ من أكبر مستوردي الحبوب الزيتية السودانية إلى الأسواق الصينية.
ومع ذلك، يبقى من غير المؤكد ما إذا كانت حكومة بورتسودان التي تعاني من ضائقة مالية ستتمكن من الوفاء بالتزاماتها بموجب هذه الاتفاقيات. إذ إن السودان مدينٌ بالفعل للصين بنحو 11 مليار دولار نتيجة استثمارات سابقة في قطاع النفط، ومن المحتمل أن يؤدي تدمير خط الأنابيب ومصفاة الخرطوم بسبب الحرب إلى زيادة أعباء ديونه.
بالنسبة لسلطات بورتسودان، يكمن الحل الواضح لمشكلتها في تشجيع شركات إنتاج الذهب الصينية التي غادرت السودان بعد اندلاع الحرب على العودة وزيادة الإنتاج. وقد تعهّد مدير شركة الموارد المعدنية السودانية، التابعة لوزارة المعادن، لجمعية الشركات الصينية للتعدين أن استثماراتهم في السودان ستحظى بالدعم والحماية الكاملين. كما أعلن من بكين عن عودة إحدى أكبر الشركات الصينية في قطاع تعدين الذهب إلى السودان. ومع ذلك، من المرجح أن يتسبب انعدام الأمن في تردد المستثمرين.
بينما يسعى الجيش السوداني إلى تأمين مستقبله الاقتصادي عبر استقطاب شركاء صينيين، وإلى حد أقل شركاء روس، فإن فرصة التدخل للحيلولة دون ذلك تتقلص. على الصعيد الوطني، يمكن استخدام بعض الآليات، من بينها:
رصد هذه الجهود ونشر التقارير عنها من قِبل وسائل الإعلام المستقلة ومنظمات المجتمع المدني وهيئات مكافحة الفساد.
تنفيذ أنشطة توعية عامة لتعزيز فهم الجمهور للتأثير الضار لمثل هذا التموضع والسعي للاستحواذ على الموارد الوطنية.
يتعين على تنظيمات العمال والمهنيين مراقبة عقود إعادة الإعمار الجديدة التي تشمل جهات خاضعة لسيطرة الأطراف المتحاربة، والشركات السودانية والأجنبية، لضمان الالتزام بالقوانين السودانية واتباع أفضل الممارسات.
يمكن للمجتمع الدولي دعم هذه الجهود من خلال:
مواصلة فرض العقوبات على الشركات العسكرية على نحو يحد من قدرتها على تحقيق أرباح من الدمار الذي تسببت فيه.
إجراء عمليات رصد منتظمة لفهم كيفية تكيّف الجيش مع هذه العقوبات، بما في ذلك اللجوء إلى إنشاء شركات جديدة وإيجاد وسطاء جدد لمساعدتهم في الالتفاف على التدابير، واعتماد آليات إضافية حسب الحاجة.
تعزيز إجراءات العناية الواجبة في ترتيبات التمويل بعد الحرب لضمان عدم استفادة الشركات العسكرية من هذه الموارد، بحيث يساهم ضخ الأموال في إعادة تنشيط القطاع الخاص السوداني المتضرر وهيئات القطاع العام التي تم اصلاحها، وذلك في منأى عن سيطرة الأجهزة العسكرية والأمنية. في نهاية المطاف، ستكون مشاركة هذه الهيئات ضرورية لإعادة بناء ما دمرته الحرب وإحياء الاقتصاد السوداني الذي أصابته النزاعات في مقتل.
سليمان بلدو هو المدير المؤسس للمرصد السوداني للشفافية والسياسات. عمل سابقاً مع منظمة “ذا سنتري”، و”المجموعة السودانية للديمقراطية أولاً”، والمركز الدولي للعدالة الانتقالية، ومجموعة الأزمات الدولية، ومنظمة “هيومن رايتس ووتش”. بالإضافة إلى عمله مع المنظمات غير الحكومية، شغل سليمان بلدو منصب مفوّض في لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن كوت ديفوار في عام 2011، كما عمل خبيراً مستقلاً للأمم المتحدة معني بحالة حقوق الإنسان في مالي من عام 2013 إلى 2017.